Comma
مرحبا بكم في موقع مسجد الهداية الإسلامية بوهران، يمكنكم التواصل معنا وإبداء الرأي والاستفسار عبر البريد الإلكتروني hidayamosque@free.fr يهدف الموقع إلى إعطاء النظرة الصحيحة عن الإسلام ودفع الشبهة والشبهات عن عقيدته وشريعة ،والتأصيل لمواقفه المختلفة وفق ما تمليه عقيدة أهل السنة (الأشعرية) ومذهب الإمام مالك في الفروع
Comma
Comma
Comma
19/04/2024 م
هـ
الجمعة 11 شوال 1445
Comma
Studies
Preaching
Shari3a
Message
SubPreaching
خصائص المذهب المالكي

د. محمد التاويل

هذا المذهب المالكي الذي اختاره الآباء والأجداد عن إيمان واقتناع وحجة وبرهان. ولم يبغوا به بديلا منذ عرفوه فجمع شملهم ووحد كلمتهم وصان دولتهم وعصمهم من التفرق والاختلاف بما يمتاز به من خصوصيات على الصعيدين: على صعيد أصول الفقه، وعلى صعيد الفقه نفسه.
1 - الحديث النبوي الشريف الوارد في عالم المدينة

وأتناول في هذه المقدمة الكلام عن الحديث، عن روايته من الصحابة ومخرجيه وسنده، وصفته ودرجته وشرح ألفاظه، وبيان معناه وتأويله، هي ثمان نقط أتناولها بإيجاز شديد.فأما رواته من الصحابة فقد رواه أبوهريرة وأبوموسى الأشعري وجابر بن عبد الله. وأما مخرجوه فقد أخرجه أحمد والترمذي والنسائي في مصنفه وابن عبد البر في تمهيده وابن حيان في صحيحه.
وأما سنده فقد روي من طرق قال القاضي عياض أشهرها طريق سفيان بن عيينة عن ابن جريح عن أبي الزبير عن أبي صالح عن أبي هريرة، ورجالها كلهم تقات مشاهير أخرج لهم البخاري ومسلم وأصحاب الصحيح. ورواه النسائي من طريق محمد بن كثير فقال فيه عن ابن جرير عن أبي الزناد قال النسائي وهوخطأ والصواب أبوالزبير عن أبي صالح عن أبي هريرة وأما صفته فرواه سفيان فرفعه ورواه الحاملي عن ابن جريح موقوفا على أبي هريرة.ورواه محمد بن عبد الله الأنصاري مسندا.
وهوثقة مأمون كما قال القاضي عياض، رواه الترمذي من طريق الحصن بن الصباح وإسحاق بن موسى الأنصاري فقال فيه عن أبي هريرة رواية.
والقاعدة عند المحدثين وعلماء الأصول أنه إذا تعارض الرفع والوقف تقدم رواية الرفع لأنها زيادة. كما أن قول الراوي رواية هومن قيل الرفع اتفاقا.
والسر في عدول الراوي عن التصريح بالرفع أما الشك في صيغة الأداء هل قال الصحابي قال رسول الله أوقال سمعت رسول الله أوقال عن رسول الله.
فإذا حصل للراوي شك يعدل إلى قول رواية،أوقوله يرفعه، وإما اختصارا.
وأما درجته فقال الترمذي حديث حسن. وقال القاضي عياض صحيح مشهور، وضعفه بعضهم بالانقطاع ولم يبين وجهه. وأما متنه فقد روي بلفظ يضربون آباط الإبل. وروى يضربون أكباد الإبل. وهوكناية عند الرحيل وإسراع السير لإدراك الغرض خشية فواته لأن الكبد لا تضرب وإنما يضربون آباط الإبل حيث تكون الكبد.
كما روي بلفظ فلا يجدون أعلم من عالم المدينة، وفي رواية فلا يجدون أفقه من عالم المدينة، ويرى كثير من العلماء أن العلم والفقه مترادفان في حين يرى آخرون أن الفقه هوصفاء الفهم ويرى الشيرازي أن الفقه هوالعلم بخفايا الأمور ودقائقها وأنه منزلة فوق مجرد العلم. ولهذا قال صلى الله عليه وسلم من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين. وأما المعنى الإجمالي للحديث فهوإخبار بأنه يكاد ويقرب تهافت الناس على طلب العلم ولا يجدون عالما أعلم من عالم المدينة.
ويبقى من هوهذا العالم المبشر به،يقول سفيان بن عيينه وغيره ممن عاصر مالكا ومن جاء بعده إنه مالك بن أنس رضي الله عنه.
والحديث إحدى المعجزات النبوية حيث أخبر بالغيب ووقع كما أخبر به، فقد سجل التاريخ أن الناس كانوا يرحلون إلى مالك من المشرق ومن الغرب طلبا للعلم والاستفتاء وقد بلغ عدد من روى عنه ألفا وثلاثمائة عالم محدث والحديث من جهة أخرى شهادة لمالك رحمه الله. بأنه أعلم وأفقه أهل زمانه، وكفى بها شهادة له ولمذهبه وفقهه وهنيئا للمغاربة وللمالكية بهذه الشهادة النبوية لمذهبهم.

2 - خصوصيات المذهب على مستوى أصول الفقه

يمتاز المذهب المالكي على مستوى أصول الفقه بعدة مزايا وخصوصيات من أهمها:
أولا: وفرة مصادره وكثرة أصوله المتمثلة في الكتاب والسنة وإجماع الأمة وعمل أهل المدينة والقياس ولاستحسان والاستقراء وقول الصحابي وشرع من قبلنا والاستصحاب والمصالح المرسلة وسد الذرائع والعرف والأخذ بالأحوط ومراعاة الخلاف. بالإضافة إلى القواعد العامة المتفرعة عنها والتي أنهاها بعض المالكية إلى ألف ومائتي قاعدة تغطي جميع أبواب الفقه ومجالاته.
هذه الكثرة أغنت الفقه المالكي وأعطته قوة وحيوية ووضعت بين أيدي علمائه من وسائل الاجتهاد وأدوات الاستنباط ما يؤهلهم لبلوغ درجة الاجتهاد ويمكنهم من ممارسته ويسهل عليهم مهمته.
وإذا كانت بعض المذاهب شاركت المذهب المالكي في بعض هذه الأصول فإن ميزة الفقه المالكي تكمن في الأخذ بجميع هذه الأصول بينما غيره لم يأخذ إلا ببعضها ورد الباقي.
ثانيا: تنوع هذه الأصول والمصادر فإنها تتراوح بين النقل الثابت والرأي الصحيح المستمد من الشرع والمستند إليه كالقياس. هذا التنوع في الأصول والمصادر والمزاوجة بين العقل والنقل والأثر والنظر وعدم الجمود على النقل أوالانسياق وراء العقل هي الميزة التي ميزت المذهب المالكي عن مدرسة المحدثين ومدرسة أهل الرأي وهي سر وسطيته وانتشاره والإقبال الشديد عليه وضرب أكباد الإبل إلى إمامه في أيام حياته.
ثالثا: توسعه في استثمار الأصول المتفق عليها توسعا كبيرا مما ساعد ويساعد على سد الفراغ الذي يمكن أن يحس به المجتهد عند ممارسة الاجتهاد والاستنباط، وهكذا نجده في التعامل مع الكتاب والسنة لا يكتفي بالنص والظاهر بل يقبل مفاهيم المخالفة والموافقة وتنبيه الخطاب كما يقبل دلالة السياق ودلالة الاقتران والدلالة التبعية، وقد استدل بقوله تعالى:   على عدم وجوب الزكاة في الخيل لاقترانها بالحمير )والخيل والبغال والحمير لتركبوها ( التي لا زكاة فيها ،كما توسع في باب القياس فقبل أنواعا من القياس لا يقبلها غيره ولم يخصه بباب من أبواب الفقه ولا نوع من أنواع الحكم.
بينما نجد كثيرا من الفقهاء يردون بعض أنواع القياس ويضيقون مجالات المقبول عندهم. فلا يقبلون القياس على ما ثبت بالقياس ولا القياس المركب والقياس على مخصوص وقياس العكس. ولا يجيزون القياس في الحدود والكفارات والرخص والتقديرات والأسباب والشروط والموانع.

3 - في خصوصياته على الصعيد الفقهي ونوجزه في عشرة محاور
أولا: رحابة صدره وانفتاحه على غيره من المذاهب الفقهية والشرائع السماوية السابقة
واعترافه بالجميع واستعداده للتعايش معه والاستفادة منه بفضل قاعدة شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد ناسخ التي اتخذها مالك أصلا من أصوله التي بنى عليها ماله وأسس عليها فقهه وانطلاقا من إيمانه بحرية الاجتهاد ووجوبه وأنه لا يقلد مجتهد غيره،وأن المصيب واحد كما يراه مالك وأكثر علماء الأصول يتجلى ذلك:
1- في اتخاذ شرع من قبلنا شرعا لنا ما لم يرد ناسخ، وهكذا أخذ المالكية بمشروعية الجعالة والكفالة من شريعة يوسف كما حكاه الله عنه في قوله:
)ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم ( . كما استدلوا على مشروعية قسمة مهيأة بقول صالح: )هذه ناقة لها شرب ولكم شرب يوم معلوم ( . وعلى جواز الإجازة والنكاح على منافع بقول صاحب مدين: )إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج ( .
2- في إباحته الاقتداء بالمخالف في الفروع ولوترك شرطا من شروط الصلاة أوركنا من أركانها في الفقه المالكي إذا كان الإمام لا يراه شرطا ولا ركنا في مذهبه، الصلاة وراء من نام ولم يتوضأ أولا يقرأ الفاتحة في الصلاة أويفتتح الصلاة بغير تكبيرة الإحرام على مذهب الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه.
3- في رفضه تكفير المسلمين بالذنب والهوى فقد سئل مالك عن المعتزلة أكفار هم؟ قال من الكفر فروا.
4- في تصحيحه حكم المخالف لمذهب مالك ومنع نقضه وإن خالف المشهور أوالراجح في المذهب المالكي، وهي القاعدة المعروفة بحكم الحاكم يرفع الخلاف المشار لها بقول خليل ورفع الخلاف لا أحل حراما.
5- فيما قرره الفقه المالكي في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن المختلف فيه لا يجب فيه الأمر بالمعروف ولا النهي عن المنكر، وهي قاعدة من أهم القواعد التي تحقق التعايش بين المذاهب والطوائف المختلفة وتحفظها من الصراع المذهبي والطائفي.
6- فيما قرره الفقه المالكي أيضا أنه إذا لم يوجد نص للمالكية في النازلة المعروضة فإنه يعمل فيها بالفقه الشافعي أوالحنفي على خلاف بينهم.
7- في رفض مالك فرض مذهبه وموطئه على جميع الأئمة حين عرض عليه الخليفة العباسي ذلك واعتذر مالك عن ذلك .
8- في استحسانه العمل برأي المخالف ابتداء في بعض مواطن الخلاف من باب الورع والخروج من الخلاف، قراءة البسملة سرا، وقراءة الفاتحة خلف الإمام للخروج من خلاف الشافعي.
9- في قبوله رواية المبتدع إذا لم يكن داعية لمذهبه ولم يكن ممن يستحل الكذب.
10- في إباحته الخروج عن المذهب والعمل بقول المخالف عند الحاجة وفي بعض القضايا التي يصعب فيها الأخذ بالفقه المالكي أولغير ذلك من الأسباب .
روي عن مالك أنه دخل المسجد بعد صلاة العصر وجلس ولم يصل تحية المسجد فقال له صبي: قم يا شيخ فاركع ركعتين، فقام فصلاهما فقيل له في ذلك، فقال خشيت أن يصدق علي قوله تعالى:   (وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون
( .
هكذا إذا يتبين مدى انفتاح  الفقه المالكي على غيره ومصالحته له وتعايشه مع باقي المذاهب في سلام وتفاهم  ووئام وإمكان الأخذ عنه والاقتباس منه.
ثانيا: قابليته للتطور والتجديد ومواكبة العصر
في ظل الشريعة الإسلامية وتحت مراقبتها وداخل إطارها الفقهي ومحيطها الفلسفي والأخلاقي بفضل أخذه بمبادىء العادة الحسنة والمصلحة المرسلة وسد الذرائع فإن هذه الأمور تختلف من عصر إلى عصر ومن بلد إلى بلد مما يفتح الباب على مصراعيه أمام كل باحث مقتدر وكل فقيه مجتهد يتمتع بالأهلية الضرورية لاستنباط ما يحتاج لاستنباطه من أحكام أواختيار ما هوالأفضل والأنسب مما هوموجود ومنصوص عليه في التراث الفقهي الإسلامي.
وقد أثبتت التجربة المغربية نجاعة هذا الأسلوب وفائدته في فقه العمليات أوما يعرف بما جرى به العمل: العمل الفاسي العمل المطلق، فإن رواد هذا الفقه التجديدي استندوا في أحكامهم وفتاويهم التي جرى بها العمل إلى المصالح المرسلة وسد الذرائع والعادات الحميدة لاعتماد أقوال مرجوحة أوخارجة عن المذهب تتناسب مع الظروف الدينية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية والأمنية التي كانوا يعيشونها مما أغناهم عن الاستيراد والتبني والتقليد والاقتباس من الغير وساعدهم على المحافظة على الهوية الإسلامية والطابع المالكي في تشريعهم وقضائهم، كمثال على ذلك قراءة القرآن جماعة شهادة اللفيف بيع الصفقة.إلا أن هذه القابلية للتطور والتجديد محصورة ومحدودة في ساحة المسكوت عنه أوالمخير فيه أوالمختلف فيه أما المنصوص عليه أمرا أونهيا أوإذنا أوما يسمى بالعادات الشرعية فإنه من الثوابت التي لا تقبل التغيير ولا يجوز المساس بها باسم المصلحة المرسلة أوالعادة المتجددة لأن ذلك يعتبر نسخا للشريعة ولا نسخ بعد وفاته صلى الله  عليه وسلم.
ثالثا: المرونة في معالجة كثير من القضايا الشائكة والحالات المستعصية
والعمل على حل المشاكل الطارئة بفضل مبدأ مراعاة الخلاف الذي اتخذه أصلا من أصوله الفقهية التي بنى عليها فقهه، يتجلى ذلك في:
- تصحيحه بعض العقود الفاسدة المختلف فيها يعد وقوعها مراعاة لقول المخالف بشرط أن يكون ذلك القول مؤسسا على دليل قوي في نفسه .
- في ترتيب آثار العقود الصحيحة على العقد الفاسد المختلف فيه أيضا.وكمثال على ذلك، الأنكحة الفاسدة المختلف فيها، فإن الفقه المالكي يصحح بعضها بعد الدخول. ويلحقه فيها الولد بالزوج ويوجب فيها التوارث بين الزوجين قبل الفتح ويعتد بالطلاق الواقع فيها.
وفي البيوع الفاسدة ينتقل فيها الضمان للمشتري بالقبض وإذا فات المبيع يمضي بالثمن.
بينما الفقه الشافعي يرى فسخ البيع الفاسد ولوتداولت الأيدي كما يرى فسخ الأنكحة الفاسدة ولوولدت الزوجة الأولاد، ويحد الزوجين في بعض الحالات.
رابعا: السماحة والتيسير في أحكامه وآرائه
رائده في ذلك الكتاب والسنة وما استنبط منهما من قواعد أصولية ومبادىء فقهية ساعدته على اتخاذ أيسر الحلول وأخف الأحكام وأسهلها مثل قوله تعالى: ) وما جعل عليكم في الدين من حرج) وقوله: )يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ( وقوله: )لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ( . وقاعدة الحرج قوله صلى الله عليه وسلم: "يسروا ولا تعسروا" وقوله: "إياكم والغلوفي الدين" مرفوع. والمشقة تجلب التيسير والضرر يزال والضرورات تبيح المحظورات والأصل في الأشياء الطهارة والإباحة وغير ذلك من القواعد التي كان لها انعكاس إيجابي في مختلف أبواب الفقه في العبادات والمعاملات والمنازعات وشؤون الأسرة وغير ذلك من أبواب الفقه التي جاء فيها الفقه المالكي أكثر تيسيرا وتسامحا وأكثر استجابة لحاجات الناس في عبادتهم ومعاملاتهم وأرفق بهم وأصلح لهم في دينهم ودنياهم مما جعل الغزالي رحمه الله بعد المقارنة بين المذاهب الفقهية في باب المياه ويقول: وددت لوكان مذهب الشافعي في المياه كمذهب مالك.
خامسا: الوسطية والاعتدال في أحكامه ومواقفه وفي أصوله وفروعه
لا إفراط ولا تفريط ولا غلوولا تشديد ولا غرابة ولا شذوذ ولا جمود ولا تعقيد ولا تمرد ولا تكفير. يقول بالقياس ويحبذ الأخذ بالرخص ويكره الأخذ بغرائب الأقوال وشواذ الأحكام يحب الاتباع ويكره الابتداع، ويحرم استعمال الحيل للتخلص من الواجبات أوالتوصل إلى المحرمات، ويرفض نتائجها ويؤاخذ المحتال بنقيض قصده، ويحرمه من الاستفادة من حيلته، ويعاقبه على فعلته. وكمثال على ذلك التوليج في البيع والوصايا ،والفرار من الزكاة والطلاق في مرض الزوج ونكاح المحلل .
سادسا: البعد المقصدي
حيث يعتبر الفقه المالكي من أعمق المذاهب الفقهية فهما لروح الشريعة الإسلامية ومقاصدها وأبعدها نظرا واعتبارا لمآلاتها، وأكثرها التزاما بمراعاة حكمها وأسرارها عند استنباط الأحكام من نصوصها، وتفريع الفروع عليها، وخاصة فيما يتعلق بالضروريات الخمس: الدين والنفس والمال والعرض والعقل فإنه تفوق على كثير من المذاهب الفقهية في العناية بها والمحافظة عليها ومنع المساس بها من قريب أوبعيد وبأي وجه من الوجوه.
وللتوضيح أكثر يكفي أن نأخذ نموذجا واحدا وثيق الصلة بالمحافظة على الأرواح، حيث يستطيع كل قارىء أوباحث أن يلمس فيه حكمة الفقه المالكي، وبعد نظره والتزامه بروح الشريعة ومقاصدها وقدرته على بلورتها وتحقيقها في تشريعاته وأحكامه.
ففي باب الدماء يتفق الفقه الإسلامي على اختلاف مذاهبه ومدارسه على أن الحكمة من القصاص هي المحافظة على أرواح الناس وحياتهم، والضرب على أيدي المعتدين وزجرهم من سفك دماء الأبرياء ظلما وعدوانا أخذا من قوله تعالى:  
)ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون)
فهل استطاعت المذاهب الفقهية المختلفة تحقيق هذه الحكمة وبلوغ هذا الهدف؟ وهل وفقت لاستنباط القواعد والضوابط الملائمة لها؟ وهل نجحت في المحافظة على أرواح الناس، والقضاء على جريمة القتل أوالتخفيف منها؟
بالنسبة للفقه المالكي نستطيع الجواب بنعم على هذه الأسئلة كلها، فقد استطاع تحقيق تلك الحكمة، ووفق في وضع القواعد والضوابط الكفيلة بإنجاحها، ونجح في الحد من انتشار جريمة القتل في المجتمعات التي دانت له مدة سيادته في محاكمها ووجوده في تشريعاتها، حتى إذا غاب عنها تغيرت الأمور ولم يبق مسؤولا عما يجري فيها.
يؤكد ما نقوله أمران:
الأول: نظري تشريعي يتمثل في وضع القواعد الصارمة وغير المتساهلة مع من تسول له نفسه الاعتداء على حياة الناس وأرواحهم.
وهكذا أوجب القصاص في القتل العمد العدوان بقطع النظر عن الآلة المستعملة فيه. والطريقة المتبعة في تنفيذه، وسوى بين القتل مباشرة والقتل تسببا وتوسع كثيرا في مفهوم السببية لتشمل الإكراه على قتل الغير والأمر به. والدلالة على المختبىء المراد قتله وإمساكه لمن يقتله، ومنع الطعام والشراب والدواء واللباس عن المضطر لذلك، وشهادة الزور بما يوجب القتل.
والحكم الجائر بالقتل، وتنفيذ ذلك الحكم ممن يعلم جوره، كما أوجبه بالتخويف إذا ترتب عليه الموت، وفي حالة رضا المقتول بالقتل وإذنه فيه مسبقا (ما يعرف بقتل الرحمة).
وأوجب قتل الجماعة بالواحد إذا اشتركوا في قتله أوتمالؤوا عليه، ونفى شبه العمد وضيق من مفهوم الشبهة الدارئة للحد، وفتح باب الإجتهاد في الحدود وجوز القياس فيها، واكتفى في ثبوت القتل بالقسامة والتدمية ولم يقبل العفومن الولي عن القاتل إذا كان القتل غيلة أوحرابة، ولا من الإمام إذا لم يكن للقتيل ولي.
وبهذا التشريح الصارم سد جميع أبواب القتل وأغلق نوافذه وقطع الطريق على المتعطشين لدماء الأبرياء ونزع الحصانة عن الجميع، وضمن للناس حياة آمنة لقوله تعالى: ( ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون).
يؤكد هذا وهوالأمر الثاني قلة نوازل الدماء في كتب النوازل الفقهية المالكية مما يفسر بقلة حوادث القتل،ويسجل شهادة واقعية باستتباب الأمن في تلك الحقب والبلاد التي ساد فيها الفقه المالكي .
بينما نجد بعض المذاهب الفقهية ضيق في مفهوم القتل الموجب للقصاص وتوسع في مفهوم الشبهة المسقطة للقصاص ومنع القياس في الحدود وأثبتت شبه العمد ورد حديث القسامة.
سابعا: البعد العلمي والمعرفي بنصوص الشريعة الإسلامية وروحها
كما يؤخذ من الحديث الشريف "فلا يجدون أحدا أعلم من عالم المدينة"، وفي رواية فلا يجدون أحدا أفقه من عالم المدينة فالعلم معرفة الشيء على ما هوعليه، والفقه إدراك الأمور الخفية قال الله تعالى: وهوالذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون) وقال تعالى: (وهوالذي أنشأكم من نفس واحدة فمستقر ومستودع. قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون)
لما كان الحديث عن النجوم والبر والبحر من المحسوسات ذيلها بقوله لقوم يعلمون، ولما كان الحديث عن النشأة من نفس واحدة والمستقر والمستودع من الأمور الخفية ذيلت الآية بقوله لقوم يفقهون. ولذا قال صلى الله عليه وسلم "من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين" ولم يقل يعلمه.
ومن أجل هذا البعد العلمي المعرفي كان الفقه المالكي أقرب المذاهب الفقهية إلى الكتاب والسنة. وكان أكثرها صوابا وأصحها قياسا كما قال الشافعي وأرجحها رأيا كما قال الإمام أحمد وأقلها خطأ كما قال ابن خويز منداد. وأحسنها تأويلا وأصوبها جمعا وتوفيقا بين النصوص المختلفة والأدلة المتعارضة. والحديث يشهد لهذا كله، فإن الأعلم والأفقه لا يكون علمه وفقهه إلا هكذا والمتتبع للفقه الإسلامي والفقه المالكي على مستوى الخلاف العالي لا يسعه إلا أن يؤكد صحة هذه الشهادات وصدقها.
ثامنا: البعد الاجتماعي والمصلحي في توجهاته وأحكامه
بفضل اتخاذه المصالح المرسلة والعادات الحسنة أصلا من أصوله الفقهية، ومصدرا من مصادره التشريعية التي بني عليها فقهه، وأرسى عليها قواعد مذهبه واستمد منها آراءه وأحكامه.
وهكذا نراه كلما كانت هناك مصلحة دينية أومنفعة دنيوية لم يرد دليل شرعي على إلغائها أوكانت هناك عادة متبعة في بلد أوسنة مألوفة بين الناس في أفعالهم أوأقوالهم لا تتنافى مع الشرع ولا تخالف قواعده فإن الفقه المالكي يقرها ويرحب بها ويدخلها في منظومته الفقهية ولا ينتظر قيام الدليل الخاص على شرعية تلك المصلحة بعينها أوتلك العادة بذاتها اكتفاء بالقاعدة العامة أن الشريعة الإسلامية إنما جاءت لجلب المصالح ودرء المفاسد، وأنه حينما كانت هناك مصلحة فهناك حكم الله حتى يدل الدليل على خلاف ذلك.
إلا أن المعتبر في المصالح المرسلة ما يحقق المصالح الشرعية لا ما يحقق رغبات الناس وأهواهم لأن مصالح الناس تتعارض فإن الله تعالى يقول: (ولـــواتبع الحق أهواءهـــم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن)
تاسعا: المنطقية والعقلانية في أحكامه
لا تجد فيه ما يناقض العقل السليم أويخالف المنطق الصحيح أوتحيله السنة الكونية، ويرفض ذلك كله ولا يقبله ويشترط الامكان في كل أحكامه ويرد ما يخالفه كما هوالشأن في الأنساب والشهادات والدعاوي.
عاشرا: الواقعية، نوازله وفروعه في مختلف لأبوابا
موضوعاتها تتراوح بين ما هوواقع وما يمكن وقوعه.
وقد كان مالك رحمه الله إذا سئل عن شيء من ذلك يقول للسائل، سل عما يكون ودع ما لا يكون، وربما أعرض عن السائل، فإذا ألح عليه السائل في طلب الجواب يقول له: لوسألت عما تنتفع به لأجبتك.
هذه جملة من خصائص هذا المذهب المبارك بوأته هذا المقام الذي أضحى معروفا به بين العالمين مقام الانفتاح والتسامح والتعاون والثبات والتسامي.
فتفاعل الناس مع مذهب يحمل كل هذه الخصائص قد جعل من فهمهم للدين وتدينهم به وتنزيله على واقعهم بمختلف تمظهراته رافدا وحاملا نحوهذا الأفق الديني السني الذي أصبح العام والخاص يتبينون تميزه، ويتعرفون من خلاله على إسلام الجمال والتسامح والإخاء الذي جاء به نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم..


لأفضل استعراض، الرجاء ضبط دقة الشاشة على: 1024 × 768

آخر تعديل لهذه الصفحة : يوم الخميس 23 محرم 1429 الموافق 31-01-2008 الساعة 13:56

جميع الحقوق محفوظة للموقع - مسجد الهداية الإسلامية بوهران